قصتي مع مولاة القهوة

 




قصتي مع مولاة القهوة

بداية الحكاية

كانت الأيام تمرُّ عليّ ببطء في تلك المدينة الصاخبة، أعيش ما بين العمل والمنزل دون أي لونٍ للحياة. كل صباحٍ، أستيقظ باكرًا، أتناول قهوتي من الماكينة الباردة، ثم أنطلق إلى مكتبي كموظفٍ نمطي، يبتسم بلا سبب ويعود إلى بيته خالي اليدين من أي شعور.

ذات صباحٍ شتوي، قررت أن أغيّر طقوسي اليومية. خرجت أبكر من المعتاد، وقادتني قدماي إلى أحد الأزقة القديمة وسط المدينة. هناك، وقفت أمام مقهى صغير يحمل لافتة خشبية مكتوبٌ عليها بخط يدوي: "قهوتنا من القلب".

دفعت الباب الزجاجي ودخلت. المقهى كان دافئًا، تفوح منه رائحة القهوة الطازجة الممتزجة بنكهة الفانيلا والقرفة. كان المكان هادئًا، تعزف في الخلفية موسيقى فيروزية خافتة.

وراء آلة الإسبريسو، كانت تقف فتاةٌ ترتدي مئزرًا أبيض، بشعر بنيٍّ مرفوع بطريقة عشوائية وعينين لوزيتين تُشعّان دفئًا. نظرت إليّ وابتسمت.

قالت بصوتٍ ناعم:
— "صباح الخير، ماذا تحب أن تشرب؟"

ارتبكت للحظة، ثم تمتمت:
— "أي شيء من صنعكِ."

ضحكت، وقالت:
— "إذًا، سأحضر لك قهوتي الخاصة. يسمونها هنا: قهوة مولاة القهوة."

لم أكن أعلم حينها أن تلك الفنجان سيكون بداية قصة حبٍّ حقيقية، سترتسم ملامحها في قلبي قبل أن تُكتب على الورق.


تفاصيل صغيرة... حب كبير

كنت أعود إلى المقهى كل صباح، وأجلس في ذات الزاوية، أطلب ذات القهوة، وأتبادل معها ذات الابتسامات. لم أكن أجرؤ على أكثر من الحديث عن الطقس أو نوع الحليب الذي تفضله مع القهوة. لكن في داخلي، كانت مشاعر كثيرة تنمو كأغصانٍ خضراء في فصل ربيع.

ذات مرة، دخلت المقهى بعد يوم عمل مرهق، وقد غطّت السماء سحب داكنة. كانت تمسح الطاولة قرب الباب حين رأتني. تركت الممسحة، واقتربت من دون أن أطلب شيئًا.

قالت:
— "تبدو متعبًا. هل كل شيء على ما يرام؟"

تنهّدت وقلت:
— "ليت كل شيء على ما يرام. الحياة مرّة من دون سكر."

أجابت بابتسامة هادئة:
— "لكن القهوة المرة هي الأقرب للقلب. مثل الحقيقة... قد تجرح، لكنها صادقة."

منذ ذلك اليوم، لم أعد أراها مجرّد فتاة تصنع القهوة. أصبحت مرآةً لأحاسيسي، تصبّ لي فنجانًا وتسكب فيه شيئًا من روحها.


خلف الستار

كنت أعرف القليل عنها. اسمها "سلمى"، وتملك المقهى منذ أربع سنوات. كانت قد درست الفنون الجميلة لكنها اختارت طريقًا مختلفًا. كانت تؤمن أن "كل فنجان قهوة هو لوحة فنية"، وأن الزبائن هم جمهورها، والمقهى هو معرضها المفتوح.

ذات مساء، تأخّرتُ حتى أغلق المقهى. عرضتُ مساعدتها، وبدأنا نرتّب الكراسي ونغسل الطاولات. فجأة، انقطع التيار الكهربائي، فعمّ الظلام إلا من ضوء الشموع الخافتة على الطاولة.

نظرت إليّ بعينيها العسليتين، وقالت بهمس:
— "أحيانًا، يأتي النور من الداخل، لا من المصابيح."

في تلك اللحظة، شعرت أن قلبي يضيء. كان حبًا صامتًا، لكن صداه كان قويًّا. تمنيت أن أقترب منها، أن ألمس يدها، أن أخبرها بكل شيء، لكنّي ترددت. الخوف من الرفض، من كسر هذا الانسجام، جعلني أؤجل اعترافي.


لحظة الحقيقة

مرّت شهور، والمشاعر تنضج كما تنضج حبوب البن في محمصة الزمن. حتى جاء يوم عيد الحب. دخلتُ المقهى كعادتي، فوجدته مزينًا ببالوناتٍ حمراء وزهورٍ بيضاء. كان هناك ورقة صغيرة على طاولتي المعتادة، مكتوب عليها:

"إلى من صار صباحي دافئًا برؤيته...
إن كنت تشعر بما أشعر، فدعنا نحتسي قهوتنا معًا بعد الغروب."
— مولاة القهوة.

كادت نبضات قلبي تتوقف. جلستُ مكاني وابتسمت. في المساء، عدتُ إلى المقهى، فوجدتها تنتظرني بثوبٍ أبيض بسيط، وشال أحمر يلفّ عنقها.

اقتربتُ منها، أمسكتُ يدها، وقلت:
— "لقد أحببتك منذ أول رشفة، منذ أول ابتسامة، منذ أول قهوة صنعتِها لي."

همست وهي تنظر في عينيّ:
— "وأنا أحببتك منذ أول مرة لم تطلب فيها السكر."


خاتمة القصة

مرت سنتان منذ ذلك الاعتراف. اليوم، نملك المقهى معًا. أنا أكتب القصص، وهي تصنع القهوة. سمّيناه "قهوة وحب"، وأصبح مقصد العشّاق والهاربين من صخب الحياة.

كثيرًا ما يسألنا الزبائن عن سرّ القهوة اللذيذة، فأقول مبتسمًا:
— "السر ليس في البن، بل في من يصنعها."

هذه كانت قصتي مع مولاة القهوة. قصة حبٍّ بدأت بفنجان، ونضجت بنظرة، وازدهرت بكلمة.



Post a Comment

0 Comments